برهوم يا حبيبة
مرحبا بك عزيزي الزائر.
إن كنت مسجلا فشرفنا بالدخول.
وإن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه
معنا في منتدى الشهاب البرهومي
وشكرا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

برهوم يا حبيبة
مرحبا بك عزيزي الزائر.
إن كنت مسجلا فشرفنا بالدخول.
وإن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه
معنا في منتدى الشهاب البرهومي
وشكرا
برهوم يا حبيبة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
دخول

لقد نسيت كلمة السر

المواضيع الأخيرة
» رسالةالماجستيرللطالبة قطوش حورية
عرش على الماء‏ .. I_icon_minitimeالإثنين 25 مارس - 13:52 من طرف قطوش ادريس

» أكبر معدل في ش ت م 19.88تحصلت عليه وصال تباني من عين الخضراء-مسيلة.
عرش على الماء‏ .. I_icon_minitimeالأربعاء 29 يونيو - 16:28 من طرف البرهومي

» الجائزة الثانية على مستوى الولاية لتلميذ برهومي
عرش على الماء‏ .. I_icon_minitimeالأربعاء 25 نوفمبر - 12:18 من طرف امل

» هل من مرحب
عرش على الماء‏ .. I_icon_minitimeالجمعة 17 يوليو - 1:22 من طرف Numidia

» عيد سعيد للجمييييع
عرش على الماء‏ .. I_icon_minitimeالجمعة 17 يوليو - 1:19 من طرف Numidia

» افتراضي ظهور قناة الارث النبوي على Eutelsat 7 West A @ 7° West
عرش على الماء‏ .. I_icon_minitimeالجمعة 17 يوليو - 1:14 من طرف Numidia

» اقبل قبل فوات الاوان
عرش على الماء‏ .. I_icon_minitimeالسبت 5 يوليو - 14:33 من طرف شهاب2008

» موضوع مهم ...
عرش على الماء‏ .. I_icon_minitimeالسبت 5 يوليو - 14:30 من طرف شهاب2008

» حوار هادف بين البنات و الشباب****هام للمشاركة........... ارجو التفاعل
عرش على الماء‏ .. I_icon_minitimeالثلاثاء 13 مايو - 19:38 من طرف خالد المرفدي

تصويت
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 6 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 6 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد

[ مُعاينة اللائحة بأكملها ]


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 197 بتاريخ الإثنين 1 أغسطس - 1:01

.: عدد زوار المنتدى :.

المصحف الكامل
جرائد اليوم






عرش على الماء‏ ..

3 مشترك

اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الثلاثاء 30 يونيو - 23:57

(وكان عرشه على الماء)‏

((قرآن كريم))‏

رشف الدكتور عبد الله آخر قطرة من فنجان قهوته الصباحيّة.‏

وقد شعر بلذّة لا متناهية، لا يعرفها إلاّ الخبير الدَّرب، والذواقة المدمن، فدبَّ نشاط جديد، وروح عافية في عروقه، استعداداً ليوم معتاد من آلاف الأيام التي عاشها في بلدته الصغيرة، اللاطئة على خاصرة الفرات، يوم يتراكم مثل قطعة نقدية في حصالة طفل حالم بألعاب، وهدايا، وأنهار، وألوان لم يعرفها قوس قزح.‏

وضع فنجانه الفارغ على طاولة أمامه، إلى جانب تمثال صغير، نصفي من النحاس المعتق "الإيبوقراط"، وحين نهض، بدت قامته المديدة في الصالون الأنيق، الذي أشرفت على ترتيبه يد عارفة وخبيرة بأساليب المدن، وقد شابها انحناء واضح في تقارب الكتفين، وانحناء الظهر، لم يقلل من رشاقتها الرياضيّة، بينما شعره السبط يسترسل، وقد تدلت خصلة جثلة على الجبين منه.‏

الصالون واسع، توزعت على جدرانه لوحات مختارة بذوق فنان، عارف وبصير، منها العالمي الذي جلبه معه، خلال أسفاره الكثيرة، ويغلب عليه الطابع الأندلسي الذي أغرم به، لأن فيه.. كما يزعم ـ رائحة الأجداد الذين بادوا، ومنها المحلي الذي اقتناه من المعارض النادرة في دمشق وبيروت.‏

خطا نحو الباب.‏

فامتلأ صدره وخياشيمه برائحة الصباح، وحين فتح الباب الخارجي، ونزل الدرجات القليلة إلى الشارع، تغيّر كل شيء، المناظر، والأحاسيس، والناس، وكأن حاجزاً رقيقاً يفصل بين عالمين أو كونين مختلفين، بيوت شائهة من الفخار والطين، وأزقة فرعية ملتوية، ووجوه صفراء، امتّصها الجوع والخوف وسنوات القهر.‏

ـ مرحباً حكيم.‏

حيّاه أحد الجوار العابرين.. فردّ:‏

ـ أهلاً.‏

الشارع أو الزقاق ـ لا فرق ـ يستقيم هنا، وقد لمسته يد العناية، لقربه من السوق فاصطفت على جانبيه الدكاكين، بينما استقرّت دائرة الريجي فيه، ممّا أعطاه امتيازاً ومكانة، وفي زاوية منه يلوذ مشرب صغير لتقديم المشروبات الروحية، أطلق عليه الناس "وادي جهنم" لرداءة مشروباته، يؤمّه حثالات السكارى من عتالين وعمال مياومين ومتبطلين، حيث تقوم داخله مراهنات عجيبة على الشراب، انتهت في بعض الأحيان نهايات مأساوية، فتلك الجلود الضاربة إلى الخضرة كجلود الضفادع، والعيون الحمر المطفأة والأيدي التي لم تعرف غير السكاكين "الكندرجية"،‏

أو السكائر الملفوفة، والأقداح، لا يمكن النظر إليها بحياد أو طمأنينة، فقد كانت تقوم بينهم وبين صاحبها الآشوري "آدم" مشاحنات حول الحساب، وعدد البطحات.. خاصة مع العجوز جاسم، فتدور الحوارية المألوفة:‏

ـ جاسم يا حبيبي، شربت بطحتين وهذه الثالثة.‏

ـ لا.. لا.. أبداً، بطحة واحدة... بطحة..‏

ـ جاسم...‏

ـ اسمع آدم.. براس نبيك محمد .. بطحة واحدة.‏

ـ يا حبيبي... بربك هذا كلام بطحة واحدة يا رجل؟! قل عشر بطحات.‏

ـ أنا سكران يا آدم؟‏

ـ أنت طينة يا حبيب آدم...‏

وفي البدايات كان الدكتور عبد الله يقطع المسافة بالسيارة، ليظلّ محافظاً على مشاعره الأثيرة، التي خرج بها من المنزل، ولكنه أدرك فيما بعد مبلغ خطر ذلك على مشاعر الناس، وعلى مهنته، فكفّ عن ذلك، ليظل بينهم وقريباً منهم.‏

ـ الحكيم قادم.‏

أصوات هامسة من عجائز وشابّات تعلقت أنظارهن بقدمه اليمنى التي ينقلها برزانة وثقة، وقد شاب مشيته عرج خفيف لا يدركه إلا المدقق الخبير.‏

ـ الحكيم وصل.‏

قالت عجوز باهتمام فرّدت كنتها الشابّة:‏

ـ حكيمك يختال مثل الحصان.‏

ـ لكنه حصان أصيل، وله لسن يطلع الحيّة من الغار.‏

ـ نشوف.‏

رفع الدكتور عبد الله خصلة الشعر عن جبينه، حركة اعتادها منذ صغره، ثم ابتسم وهو يعبر الصفوف البشرية، التي امتدت من مدخل العيادة إلى الطابق الثاني، وفي صالة الانتظار، تصفح الوجوه التي اعتادها، وعرفها، هذه الوجوه مرسومة بألوان قاتمة ومعتمة، امتصّ عافيتها، وجفف رونقها شموس الحصاد، وشقاء القطن، والركض في البراري وراء الأغنام، والأباعر، ونشّف جلدها الشاي والدخان والوقت العسر، وجوه وراء ملامحها الجاسية عوالم من الخرافات والحكايات الأسطورية التي طالما تألق بها في محاضراته، ومجالسه الحميمة، فكسب سمعة راسخة في صالونات دمشق وبيروت.‏

وفي صدر الصالة طالعته كالعادة صورة لفتاة بدوية تحمل حزمة من سنابل القمح الصفراء، فيشع منها الذهب والنماء، والرغبة الجارفة في الإفناء والغناء في لهاث البراري الشابّة، صورة أدمن رؤيتها منذ أعوام، جلبها أحد العاملين عنده، وعلّقها إلى جانب القسم الطبي دون أن يقصد غاية محددّة.‏

فتح الممرض الشاب الباب، فدلف إلى الداخل، الغرفة التي يستقبل فيها مرضاه بسيطة الأثاث، أقرب إلى العري إلاّ من بعض الآيات القرآنية المعلقة، والكراسي القليلة، ومقعد طويل للمعاينة، وطاولة من الخشب تناثرت الأقلام وبعض زجاجات الأدوية على سطحها بإهمال غير مقصود.‏

خلع معطفه، وبعد أن علّقه على المشجب، وارتدى مريوله، أسند ظهره إلى الكرسي المريح، وابتسم لكل شيء للصباح، وللناس، ولصوت الباعة في السوق القريب، ولرائحة الأدوية والمرضى، ومن النافذة تدفق نور الشمس، وقد بدت من وراء ظهره أسطحة المنازل الواطئة ورتابة حركة المخلوقات، وإيقاع المولد الكهربائي الذي مازال يعمل منذ بداية الاحتلال الفرنسي، دون توقف.‏

مرّ رفّ من الحمام، رآه بطرف عينه قريباً من النافذة، حين دخل عليه أول مرضاه، عجوز ناحلة. أطلت خصلة حمراء شاحبة من شعرها المصبوغ بالحناء من خلال عصبتها السوداء، وقد امتلأ وجهها برسوم بدائية لوشم ـ كان يوماً ـ يزين وجهاً وسيماً معافى، عجوز تنقل خطاها بثقل، وهي تتكئ على كتف شابّة حلوة بزّيها التقليدي، تبدو وكأنها كنتها، وحين جلست على الكرسي تنهدت، وهي تمسح غبشاً لا يزول عن عينين كانتا يوماً جميلتين، ثم قالت بصوت بدا للدكتور عبد الله وكأنه يأتي من العالم الآخر:‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الثلاثاء 30 يونيو - 23:58

ـ مرحباً.. حكيم.‏

ـ يا هلا بأم عويد. خير.‏

ـ جاءك كل خير.. يا حكيم.‏

ـ واضح.. الصحة عال والحمد لله.‏

ـ عشرون عاماً مرّت يا حكيم، والخوف جديد عليّ.. قل لي يا حكيم..‏

ـ نعم ..‏

ـ عزرائيل؟ هو عزرائيل الذي نعرفه أم تغيّر هو الآخر؟‏

ـ وكلي الله يا أم عويد.. عزرائيل هو عزرائيل إلاّ إذا كان لك رأي جديد.‏

ـ ونعم الوكيل يا حكيم.. ولكن إذا كان هو عزرائيل الذي نعرفه، ليش أنا خايفة يا حكيم؟ ليش الرائحة تغيرت؟ صاحبي الذي أعرفه من قبل كانت له رائحة الذيب، أما الجديد فله رائحة الضبع يا حكيم..‏

ـ الوقت شين يا عجوز.‏

ـ الوقت يبدّل الرائحة؟‏

ـ يبدّل.‏

ـ حتى رائحة الموت؟‏

ـ أبعدي الموت عن فكرك.. فأنت والحمد لله أكثر شباباً من كنّتك.‏

ـ اضحك على خالتك.. اضحك..‏

وقام من مكانه مطلقاً فكاهة قديمة، تعرفها، فأشرق وجهها، وفارقتها الحيرة، وبدأت تعّدد سلسلة أوجاعها التي لا تنتهي.‏

***‏

للموت والحياة معناهما الخاص في العيادة.‏

فهما صديقان أليفان، يشربان الشاي والقهوة، ويستمعان إلى أحوال المواسم، وغارات الجراد على الزرع، والخوف على القطن من الدودة، التي تفتك بأجراسه الخضراء، وسط دخان التبغ، ورائحة الجلود التي دبغتها الشمس الكاوية، ولا يختصمان حول القسمة، فمكر الزبائن بات معروفاً، وسلطان الطبّ الحديث لا يعلو فوق سلطانها.‏

ـ الله.. الله..‏

ربما تتصاعد من صدر عجوز لطأ في الزاوية، يرقب وجوه القادمين، وجلّهم من القرى القريبة، والأرياف، ودخان سيكارته، يتصاعد، وفي عينيه نظرة غامضة، تدرك أن الوقت مثل الفرات، موجة تدفع أخرى حتى يصل المحيط المالح، فيغيب الصغير الحلو، في الكبير الأجاج، ولا مفر أو مهرب.‏

ـ كيف سأقول له؟‏

قالت شابّة سمراء، تتدلى من وردينه أنفها قطعة ذهبية، تخاطب قريبة لها فأجابتها المرأة:‏

ـ لا تقولي شيئاً.. الحكيم يعرف من غير كلام.‏

ـ يا ربّي..‏

ـ أنت خوّافة وهبلة.‏

واستسلمت لأمن حذر، بينما ظلّ وجه الممرض حيادياً وراء طاولته، وأمامه أوراقه التي سجّل عليها أسماء المرضى وأدوارهم، وقد بدأ مع مرور الوقت، يفقد اهتمامه بالمرضى الذين لا يجدون متعة إلاّ في الجلوس على الأرض والثرثرة الفارغة التي تصله بلا معنى.‏

ـ مائة مرّة قلت له يا حكيم، قل لي: اترك ابنك، أتركه، اهجر النسوان، أهجرهن، لكن الدخان لا، كل شيء إلاّ الدخان، فيهز رأسه ويقول هذا كلام مجانين، تترك الدخان يعني تتركه، رجل تبطحه سيكارة ليس برجل، عيب عليك، وأترك الدخان يا صاحبي وبعد شهر، أو شهرين، تعرف النفس الدنيّة، أرجع له، وترجع البلاوي والمصائب، فلا أعرف النوم أو الراحة.‏

قال رجل لجاره.. فردّ عليه:‏

ـ ابن آدم مثل الماء، كلما صادف مكاناً واطئاً ركض إليه.‏

ـ هي موتة موتة، فدخن عليها تنجلِ.‏

ـ هذا رأيك؟‏

وضحك الرجلان بودّ وصفاء، وقد تصالحت في الداخل أمور كثيرة تلوذ بظلام وخدعة وتصاعد الدخان.‏

ـ أوووف..‏

تململت امرأة شابة بين يديها وليدها الناحل، الذي كفّ عن البكاء، وكانت تنظر بخوف إلى الباب المغلق مرتاعة، خائفة من وقوع ما تخشاه، فهذه تجربتها الأولى في الإنجاب.‏

ـ اهدئي..‏

قالت لها امرأة عجوز، والمكان يضيق حتى يتحول إلى ثقب إبرة، فرّدت ضارعة:‏

ـ من البارحة ما غمض له جفن، ولا عرفت النوم، ولم يطلع النهار إلاّ بعد أن طلعت روحي.‏

ـ هؤلاء هم الأولاد، شيب القلب، وعمى العين.‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الثلاثاء 30 يونيو - 23:59

ـ لو كنت أعرف..‏

ـ تعرفين ماذا؟ الولد نربيه كلّ شبر بنذر، والبطن التي تلد واحداً، تلد عشرة.‏

قالت العجوز وهي تقرّر أمراً لا مفر منه، فما أكثر الذين دفنتهم صغاراً، وما أقل الذين عاشوا.‏

وحين كبروا غادروها إلى دنيا أخرى، ومع ذلك دعت لهم بالسعادة، ولم تزعل.‏

ـ ها.. انفتح الباب..‏

صاحت الشابة، ثم انسلت إلى الداخل بخفة الأفعى، دون أن تأبه بأحد من الحاضرين، وضاعت سدى صيحات الممرض الحيادي.‏

مع آخر مريض غادر، وبعد انصراف الممرض.‏

تنفس الدكتور عبد الله الرفاعي الصعداء، رفع قدميه، وأراحهما على الطاولة، وراح في غيبوبة ناعمة، وكأنه يغتسل من غبار الوقت، والكلمات، والأنفاس، والعبارات الفارغة، كما يغتسل الإوز في الفرات، وقد اختلط الحلم باليقظة القاسية، والواقع بالخيال الذي يجعل من السماء قبّة من الكريستال تطالها يد طفل، ومن أسفل العيادة جاءته أصواتهم المألوفة، ما أعجب مربيّ الحمام هؤلاء قد يقتلون أباهم من أجل طير، وقد يذهبون إلى آخر سورية من أجل طير آخر، مهووسون صغار، يتفاوضون أسبوعاً من أجل استرجاع طير اصطاده أحدهم لآخر، وحين لا ينفع الكلام يحتكمون للسكاكين، قال له أحدهم يوماً حين عاتبه على التجمع والضوضاء:‏

ـ حكيم.. هذه سوسة لعينة لا خلاص منها.‏

وقد ظل الدكتور عبد الله حائراً، لا يفهم العلاقة بين تربية الحمام وتعاطي الحشيش، فأكثر المربين من المدمنين يجتمعون في دكان عارٍ أمام العيادة في الطرف المقابل، وهم مسحورون يدخنون، ويرقبون طيور الحمام تحجل بأبهة ملكية، لساعات طويلة كمتعبدين والهين، صامتين، ينتظرون معجزة تحدث، فتذكر يوم وزعت عليهم الحكومة زيتاً، أصاب الناس جميعاً بالعشا الليلي، فتحولت البلدة بعد الغروب إلى قرية للعميان، فكانوا يلزمون بيوتهم، ويتعرفون إلى بعضهم بعضاً بالأصوات، وعلى حاجياتهم باللمس، وحين امتنعوا عن تناول ذلك الزيت اللعين، عادوا إلى حالتهم الطبيعية.‏

ـ زمان عجيب.‏

قال الدكتور عبد الله.. ثم قام من مكانه.‏

***‏

ـ فتّح ورد "الباجلاَّ".‏

ترنّم إسماعيل الفارس باللحن، وهو يرى الدكتور عبد الله يغادر العيادة، فلم يكترث "أبو حنّا" الآشوري، فهو يعرف ـ كما يعرف جميع روّاد الحانة ـ أن إسماعيل يقول دائماً أشياء لا تخطر على البال، ولا يصدقها العقل، فالعالم عنده بعد الكأس الثالثة مهزلة، فمرة حكى لهم حكاية جدّه المجنون بصيد الظباء والنساء، حين عبر الحدود إلى تركيا، واختطف فتاة كردية جميلة، وفي طريق العودة لم يصبر عليها، خاصة وقد ضفّ الليل، وسطع القمر على تلك البراري الوحشية، فتوقف، بحث عن شيء، يربط به الفرس، وحين لم يجد، ربطها برجل الفتاة، واعتلاها في ذلك الخلاء، وكأنه من الجان، وقد اكتشف أنّ الفتاة أكثر جنوناً منه، ففي الصباح لم يستطع ركوب الفرس إلا بمساعدتها.‏

ـ كانت الدنيا قديماً يا صديقي في هذه المنطقة، باشوات الترك، وشيوخ البدو، ومخفر الدرك، ثم جاءت فرنسا، فلم يتغير الأمر كثيراً خياركم في الجاهلية، خياركم في الإِسلام.‏

قال إسماعيل الفارس لنديمه وجاره المقابل فسأله:‏

ـ واليوم؟!‏

ـ انضاف إليهم أغوات القطن.‏

ـ والحكومة؟‏

ـ أمنّا الكبيرة.‏

وسكت إسماعيل الفارس حين هبّت رائحة الشواء من بائع القلوبات والكلاوي، تاركاً الخمارة تغرق في الدخان، ورائحة المشروب، وقد بدأت زهور الباقلاء، تتفتح في داخله، بينما صاحبه يدفع إلى جوفه آخر ما تبقى في كأسه، وهو يؤكد أن المكان تحوّل إلى سفينة حقيقية، تمخر نهر الفرات باتجاه البحر الكبير.‏

رائحة الشواء تهبّ، والحانة تستقبل زبائن جدداً، أنصاف بشر، من سنكري عجوز جوّال، جلس عند المدخل للراحة، وتناول كأس من العرق، ودلاّل سيارات في الكراج القريب، وصيّاد سمك صامت كصخرة، وكأنه ينتظر سمكة تعلق بصنارته.‏

ـ من أين جاء كل هؤلاء النغول؟‏

قال إسماعيل الفارس لصاحبه.‏

ـ دع أمر الخلق لربّ الخلق يا رجل.. واشرب.‏

أجاب الرجل.. ثم رفع كأسه عالياً.. وأردف:‏

ـ بصحتك..‏

ـ صحّة.‏

ـ إسماعيل.. كل الناس خير وبركة ماداموا يشربون العرق، ويقامرون، ويتركون لي نساءهم وحيدات في الليل.‏

ـ وهذا ما يسهل عليك إغواءهن.‏

ـ اشرب..‏

ـ اسمع يا صديقي.. السيد الوحيد هذه الليلة عندي هو البوكر.‏

مع مَنْ ستلعب الليلة؟!‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الأربعاء 1 يوليو - 0:00

ـ شلّة الوجوه المعروفة.‏

ـ وأين ستلعبون؟‏

ـ في بيت "الشريف".‏

ـ كرخانة في النهار، مقمرة في الليل، عاش الشرفاء.‏

ـ آه لو ترى بنات الرجل وهنّ يقدمن المازة والويسكي والعرق والابتسامات المشجعة، ويراقبن الأرصدة المكدسة أمام المحظوظين..‏

ـ ستموت على طاولة القمار..‏

ـ فليكن..‏

ـ يلزمنا بعض الشواء.. ما رأيك؟!‏

وقام الرجل دون أن ينتظر ردّاً من إسماعيل، وغاب.‏

ـ يجب ألاّ أسرف كثيراً في الشراب اليوم.‏

قال إسماعيل الفارس يخاطب نفسه، وقد تحرك السنكري العجوز مغادراً المكان بعد أن شرب كفايته، وقد توّرد خداه المغضنان، وعادت إليه قواه.‏

ـ العرق بلا شواء كالفراش بلا أنثى.‏

ـ أصبحت حكيماً يا صديقي.. هات.‏

وفرد أرغفة الخبز الحارة على الطاولة الخشبية الواطئة، وقد فاحت رائحة اللحم في المكان كعطر غريب، ومن بعيد تناهي إلى سمعه صوت بيرام الرهاوي يتغنى بزكية بنت زكوّر التي خانته.‏

***‏

حين أفاق بيرام الرهاوي متأخراً كالعادة.‏

رفع رأسه الكبير عن فراش القش، فاصطدمت عيناه بالجدران السود، والثقوب والمسامير، وكأنها وجه مجدور، وفي زاوية من الزوايا، تكوّمت كميّة كبيرة من ورق الصحف والقش، والأغصان الجافّة، والأخشاب، فإن بيرام لا يتورع عن القيام بعمليات سطو صغيرة وساذجة لحسابه الخاص، مقابل بعض الشبع والدفء أحياناً، وغير بعيد عنه، كان إبريق الشاي يقف كطاووس للأبهة والنشوة، وإلى جانبه كأس فارغة.‏

حرّك بيرام فخذه، فانغرست قدمه في التراب الفدر، وطارت علبة الدخان المعدنية من جيبه، فتذكر السيكارة، فتناولها بأصابعه الطويلة، فتحها، فصدر عنها ذلك الصوت المعدني الخافت، المرحب "تك"، وبارتعاش خفيف ولاهف، أخرج الورقة البيضاء الرقيقة، ليلفّ سيكارة، فتمزقت بين أصابعه فبصق بنزق.‏

كانت الغرفة أو ما يسمى غرفة عبارة عن خرابة، هجرها الناس، وتحاشوها، بعد أن كثرت حولها الأقاويل والشائعات، عن امرأة شابة تخرج في منتصف الليل غارقة بدمها، وهي تحمل رغيفاً من الخبز، تقسم عليه إنها بريئة من كل ما نسب إليها من فجور، وإن زوجها كان مجنوناً حين صدّق، وفعل بها ما فعل، ويوم سكنها بيرام الرهاوي، قال الناس إنه خاوى الجن، وأصبح خدين الأرواح، فأصبح نصفه قديساً، والنصف الآخر معلوناً عند الناس، ودخل بمجمله في زمرة الدراويش من أهل الحال والأسرار على قاعدة "يضع سرّه في أضعف خلقه" وهل هناك أضعف من بيرام؟‍!‏

خربة أو غرفة ـ فليكن ـ توالي من قبل على سكناها كثيرون، ولكن بعد مقتل المرأة لم يجرؤ مخلوق على الدنو منها، حتى جاء بيرام فاحتلها بقوة الجنون، وقد امتدت أمامها عرصة واسعة تملؤها الحجارة والصخور وأشواك العاقول.‏

لحظة أرَّث الرهاوي سيكارته، فرد قسمات وجهه، وراقب قدميه الحافيتين المفطرتين، وثوبه الحائل، الذي لوثته الأوضار وبقع الدهن، وكان شعر رأسه المدغل بالتراب والوسخ يشرئب، وحسّ الطمأنينة والهدوء يرينان على ملامحه مما يسلمه إلى استرخاء رعوي غير آبد، فجضَّ كحيوان مربوط:‏

ـ يا زكيّة.. يا بنت الكلب.‏

وعاود الصمت، فلاحت صورة أبيه الأصهب، ولبابيده، وأكوام الصوف، ورائحة العرق الحامض والماء.. فصاح:‏

ـ يا مسلم الرهاوي.. يا أبي الحقير.‏

وقد أحسّ برغبة حقيقية في قتل هذا الأب الخائر والمسكين، فاندفع يغني بشراسة طالما واراها بالهبل:‏

ـ فتح ورد "الباجلاَّ"‏

ثم سكت فجأة حين تذكر مبدأه: الغناء ممنوع بلا مقابل، فهو عندما يغني يجب أن يقبض مقابلا، ولا تهمّه طريقة التعامل التجارية بضاعة مقابل نقد، وإنما مقابل كل موّال أو أغنية، يأخذ سيكارة، أو رغيف خبز، وربما حفنة من السكاكر وبعض الشاي الأسود.‏

وكان بيرام الرهاوي ذا وجه أحمر تملؤه بثور ناعمة، وفي عينيه الصغيرتين تحت حاجبيه الكثيَّن، تستقر نظرة بلهاء غير مستقرة، وإلى فترة غير بعيدة، لم يكن يشكو من مرض، أو تغير يلفت الانتباه إليه، إلى أن حانت اللحظة.‏

كان الوقت صباحاً، وقد أفاق بيرام متعباً بعد ليلة حافلة، أمضاها في ركل اللبَّاد الملفوف بقدمه جيئة وذهاباً من أول الدكان إلى آخره، وهي الطريقة البدائية في صنع اللبابيد الصوفية، التي ورثها أبوه عن أجداده الرهاويين.‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الأربعاء 1 يوليو - 0:01

تناول علبة أبيه ودرج سيكارة غليظة من التبغ المهرّب الثقيل، فصاحت به أمه:‏

ـ بيرام.. سيقتلك الدخان يا بني.‏

فلم يردّ، تناول كأساً من الشاي، وقريباً منه كان أخوه عطا يلهو بقطعة من الجبن الأبيض والزيتون، فالبيت آجار، والدكان آجار، ثم الصوف وهؤلاء البدو والفلاليح تفتحوا مثل الأبالسة، فلا يمكن غشّهم أو سرقتهم كما في الماضي، وفجأة اندقّ الباب الخشبي المتهالك، فقام بيرام بتثاقل، يحاول أن يطرد بقايا النوم، حافي القدمين، فتح الباب فأطل وجه دركي سمين.. بادره:‏

ـ بيت مسلم الرهاوي؟‏

ـ نعم .. أية خدمة؟‏

ـ أنت بيرام؟!‏

ـ نعم.. سيدي.‏

ومدّ له ورقعة رسمية، وأشار إلى ذيلها قائلاً:‏

ـ وقع هنا..‏

ـ أنا أمّي سيدي.. ثم على أي شيء أوقع؟‏

ـ وقع. ابصم لا يهم.. هذه تبليغة.‏

ـ تبليغة؟... ماذا تعني؟!‏

ـ تعني أنك مطلوب "للعسكرية".. فهمت يا حمار؟!‏

ـ فهمت سيدي.. عسكرية.‏

ـ ابصم.. يلعن "هيك" أشكال تريد تحرير فلسطين بكره.‏

وبصم بيرام الرهاوي، ثم عاد مطرقاً يجرجر قدميه خائراً، فاستقبلته أمه بنظرة خائفة حذرة، فلأول مرة يطرق بابهم ابن حكومة، فقالت متسائلة.‏

ـ ها.. بيرام ماذا يريد منك؟!‏

ـ عسكريّة بنت الكلب.. عسكرية.. فهمت؟!‏

وضربت صدرها بجماع يدها.. وصاحت:‏

ـ من أين جاءتنا مصيبة "العسكرية" هذه؟! أمان ربّي.. أمان.‏

وطالعتها صورة مسلم الذي بدأ يذوب، وكومة الصغار، والسعال الذي لا يتركه طوال الليل، وقال بيرام بنزق:‏

ـ أنا أكره العسكرية.. العسكرية بنت كلب.‏

وقالت الأم:‏

ـ كيف ندبر حالنا بدون بيرام يا ربّ؟!‏

وقال أخوه عطا:‏

ـ بيرام سيصبح عسكرياً؟‏

وقال أخوه الأصغر:‏

ـ سيخاف من بيرام كل أهل الحارة، ولن يضربنا أحد.‏

وتابع بيرام شرب الشاي والتدخين، فهو سيرحل وحيداً، وراء حيطان عالية، وأسلاك شائكة، ولن يستطيع رؤية أهله إلا في "المازونيات" وهات عمراً حتى تحصل على "مازونية"، ماذا لو كان لديه البدل النقدي؟! البدل النقدي.. وهزّ رأسه وهو المفلس ابن المفلس، وتذكر اللبابيد والزبائن المنتظرين، والصوف المكوّم، وهؤلاء الصغار.. يا رب.. قال في داخله ثم تحرّك إلى الدكان، حيث كان أبوه ينحني على الصوف النظيف المنفوش، يرتبه بصبر وعناية وخبرة، وقد غرقت نظراته في المساحات الملّونة، يتقراها بدراية وعشق، وقد تدّلت من طرف فمه سيكارته اللفّ، وضاقت عيناه تحت جمّة بيضاء، وبين لحظة وأخرى يتصاعد سعاله المشروخ، فيهتز بدنه كاملاً:‏

ـ بلغوني اليوم.. لازم ألتحق "بالعسكرية".‏

قال بيرام، فجمد الوالد للحظة، ثم سعل بقوة، قبل أن يقول باستسلام:‏

ـ العسكرية واجب وخدمة للوطن.‏

ـ واجب..‏

تمتم بصوت خافت، ثم استدار إلى الطرف الآخر تهاجمه رائحة العفن والعرق الحامض وعيناها، عينا زكية بنت زكور الواسعتان كعبّاد الشمس.‏

وظل بيرام ساكناً، ساجماً مدّة أسبوع، ثم أعلن جنونه:‏

ـ يا زكية.. يا بندورة حمراء..‏

صاح بيرام في السوق بين دهشة أبيه واستغراب الجيران.. ثم اندفع يغني بصوت حزين وجاد، ويرقص بجنون أسطوري:‏

مالي شغل بالسوق مرّيت أشوفك..‏

وانطلق بيرام في الزحام حتى توقف أمام دكان زكوّر، وبدأ في شتمه والسخرية منه، فجاء الدرك، ولأول مرة يذوق طعم الخيزرانات والأحذية الثقيلة، ومع ذلك لم يتوقف عن الغناء بجعير هز المكان، وقال الناس:‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الأربعاء 1 يوليو - 0:01

ـ فقد بيرام عقله.‏

وقال أبوه:‏

ـ منه العوض وعليه العوض.. جُنَّ الولد.‏

وهذا ما أكدته اللجنة العسكرية الطبية في حلب، فأعفي من الخدمة، ولم يعد إلى بيته بعد التسريح، تحصّن في الخربة المسكونة، مع شبح الفتاة القتيلة، واستسلم الأب لقدر ابنه قائلاً:‏

ـ كان عقله يزن جبلاً .. ولكن...‏

وقالت أمه:‏

ـ لقد خاوى الجنّ، وتزوج من جنيه خلّف منها، وهي لا تتركه.‏

وقال الشيخ جنيد:‏

ـ الرجل عاشق، والعاشق إذا ذاب قلبه، اختلّ عقله.‏

وحده الدكتور عبد الله الرفاعي، تفهّم حالة بيرام الرهاوي، لكنه لم يبدِ رأياً وإنما قال:‏

ـ سيكثر أمثاله في المستقبل كلما تعقدت الحياة.‏

***‏

ـ يا زكيّة...‏

نادى بيرام وهو يعبر الحانة، فتابع إسماعيل الفارس أحاديثه غير المفهومة للعامّة، فقال لصديقه وهو يشرب:‏

ـ بتقديري بعد موت إبراهيم باشا الملّي، وانفراط عقد الكتائب الحميدية، لم تظهر زعامات حقيقية في المنطقة، وكل الظواهر التي كانت لا تعدو كونها صنيعة للسلطات المحلية: القائم قام ومخفر الدرك وشيوخ البدو، وقد حاولت فرنسا أن تضيف إلى الجاه العشائري قليلاً من سلطة الحكومة والولاء للحاكمين.‏

ـ إسماعيل.. من أين تأتي بهذا الكلام؟!‏

ـ هل نسيت أنني كنت المرافق الخاص للكابتن بونو ضابط الاستخبارات الفرنسية، لقد تعلمت منه كثيراً، وحفظت كثيراً من أحاديثه مع الزوّار، ثم لا تنسَ أنه الذي علمني القمار والسكر.‏

ـ ها.. نسيت.‏

ـ بصحتك..‏

ـ صحّة.‏

وتابع كل شيء حركته في ذلك الحيّز من الحانة، فأطلق إسماعيل حكمته الأخيرة قبل أن يقوم، ليستعد للعبة الليلة:‏

ـ البلد منذ البداية افترق إلى حلفين: حلف الأكراد، وحلف العشارين، وكل مَنْ جاء بعد ذلك "فراطة"، أتى به القطن أو مشاريع الحكومة أو الفقر. وفتح ورد "الباجلا".‏

وقام إسماعيل الفارس من مكانه، فتهيأ آدم الآشوري لطلب جديد، وتساءل إسماعيل لآخر مرة:‏

ـ ماذا يفعل حاج مامو العجوز الآن؟! وهل سيغلبنا في اللعب الليلة؟!‏

وهزّ رأسه نافياً مثل هذا الاحتمال إلا إذا كان هذا العجوز قد عقد حلفاً مقدساً مع إبليس.‏

خطوة.. خطوة نزل حاج مامو من الجرداق.‏

وحين توسط الحوش، ملكته قوّة خفيّة، فسال زهواً، وكأنَّ حجراً في المكان يوطد زمانه المقبل، ويؤبد سلالته إلى أجيال، هو الذي نسلته امرأة أصابعها من ذهب، وعقلها من جواهر، امرأة عودته الرحلة، وعشق الماء والأسفار، وصلَّبته على نار هادئة، امتصّت كلَّ وهن خائر من شجرته، فكان يرقة الحرير التي تصنع من أوراق التوت الطريّة حريراً.‏

ـ عوّاد.‏

نادى بقوة آمراً، فطلع خادمه الموكل بالحطب والماء كالجني، ثم جاء يسعى، وأقدامه الحافية تدقّ الأرض، وصدره مفتوح للهباء.‏

ـ أمرك حاج.‏

ـ واحد طويل عريض مثلك...‏

قال الحاج وهو يتأمل عوّاد كما يتأمل عجلاً للفلاحة لا بشراً.. ثم تابع:‏

ـ العدّة.‏

وترك الحاج خادمه إلى دنّ الماء الفخاري، ليشرب قليلاً من الماء، وقد بدا الحوش واسعاً، أشبه بقلعة من القلاع، يتوسطه تل من الرماد الأسود والفخار والطوب المحروق، يؤكد الأهلون أنه من مخلفات التتار حين مرّوا في المدينة، وقد تركه الحاج على حاله، بل اتخذه مرصداً يرقب من فوقه ما يجري، حيث يجلس على قمته، منعزلاً ووحيداً مع عدته يفكر، ويشرب، ويدخن النرجيلة، ويحلم أحياناً، أو يتذكر رحلته الأخيرة إلى هذه المنطقة قبل عقود من الزمن الهشّ.‏

انحدر الحاج مامو من البيرة، محملاً سفنه بالأرزاق من زبيب وتين مجفف وحلاوة وبرغل، وهذا ليس بجديد، لكّن الجديد اصطحاب عائلته معه، فالفرات يعرف رحلاته التجارية من البيرة حتى عانة، وأغلب سكان ضفاف النهر، يعرفون سفنه، لكّن الذي لم يعرفه أحد هو أن الحاج يرحل رحيلاً أبدياً عن البيرة لأسباب تافهة، لكنها مؤرقة له، تحدّ من سطوته، وتربك لحظات سعادته.‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الأربعاء 1 يوليو - 0:02

فقبل ثلاثين عاماً جاءت امرأة شابة مع وليدها الطفل، وسكنت البيرة، كانت وحيدة، ومع ذلك لم يسألها أحد شيئاً، فأمام صرامتها وصدقها في المعاملة وليراتها الذهبية، سكت الناس، وحين كبر الولد وعرف الطريق إلى الشارع وملاعب الصغار، سألوه:‏

ـ ابن مَنْ أنت؟!‏

فاجأه السؤال.. فأجاب:‏

ـ ابن ماما.‏

ضحك الصغار بمكر وخبث، وصاروا ينادونه: ابن ماما، ولما شبّ كان يحمل خصائص الأم في شبابها من سيطرة وقوة، ولكنه لم يستطع محو اسمه من ذاكرة الصغار الذين كبروا، فحج إلى بيت الله الحرام، فتحول الاسم إلى حاج ماما، ورغم ثرائه، وامتلاكه للمال وقوة الشخصية، ظل الاسم يطارده حتى قرّر الرحيل، وبعد استقراره حرّف الاسم إلى حاج مامو، وبعد ضم البيرة إلى الجانب التركي، انطوت تلك الصلة إلى الأبد، فأكثر الحاج من الأولاد وشرب الخمرة وزراعة البطيخ الأصفر ثم جاء القطن.‏

***‏

ـ كل شيء جاهز يا حاج.‏

قال عوّاد، فاتجه، يصعد التل، وقد بدا البيت الواسع هادئاً، فالحاج زوّج الأولاد، الذين زرعهم في مشاريعه الكثيرة، للحفاظ عليها من السرقة والنهب، فهو لا يثق بالفلاليح، فكلهم لصوص عنده، وبعد موت زوجته اكتفى بالخادم، وزيارات الأولاد الأسبوعية، والمذياع الذي ينقل إليه الدنيا، ومباهج الغناء التركي الذي يعشقه.‏

جلس الحاج يشرب، ويدخن، ويخطط للعبة الليلة مع "الأوباش" كما يسميهم، لأنهم من صغار الكسبة، واللعب معهم يلّذ له، فرغم ثروة الحاج ومكانته وسطوته، يحبّ هؤلاء البشر، لكنّه حب من نوع خاص، فيه الشفقة التي تعلّمها من آرتين مادويان حين كان منفياً في منتصف العشرينات، فكان قريباً منه ومن رفاقه القادمين من بيروت بحكم عمله كرئيس للبلدية يومذاك، وفيه القسوة الشديدة على نوعية خاصة منهم كالبلهاء أمثال خادمة عوّاد، وغيره من العتالة والرعيان وماسحي الأحذية.‏

مع أول بوادر النشوة الحقّة، ووسط الدخان، يتناول الحاج الغربال ـ وهو جزء من العدّة ـ وبدحرجه إلى أسفل التل، ثم يصيح بالخادم الواقف بين يديه كالصنم، لمراقبة نار النرجيلة.‏

ـ عوّاد.. هات الغربال.‏

وعوّاد اعتاد اللعبة، فأصبحت جزءاً من حياته، لذا تراه، ينطلق راكضاً إلى أسفل التلّ، ليعود بالغربال، بينما ينفث الحاج دخانه، ويشرب من كأسه، وهكذا كلما أعاد الخادم الغربال، دحرجه الحاج من جديد.‏

وعندما يحين وقت صلاة المغرب، ينحدر الحاج، ليتوضأ من البئر، ثم يصلي دون اعتبار لآراء الآخرين، فله فلسفته الخاصّة، فرأس بلا "كيف" يجب أن يقطع، وقلب بلا حب، قلب خربان وعقل بلا إيمان نصف عقل، ويوم أصابته علّة خطيرة، رفض تناول أدوية الدكتور عبد الله ونصائحه، وطلب كبّة نية وعرقاً..‏

ويوم لامه بعض الزوار على قسوته، وطلبوا الرحمة، بخادمه، التفت إليهم قائلاً بقناعة وإصرار:‏

ـ لست أرحم به، ولا أعدل من الله سبحانه حين خلقه نصف حمار، ثم ألبسه جلابيه وعقالاً، وأمره أن يمشي على اثنين.‏

وهناك سرٌّ لا يبوح به الحاج مامو إلا لخلصائه، فلقد رفض أن يرجم إبليس حين حج، وحجته في ذلك كما يقول:‏

ـ ولماذا أرجمه وليس بيني وبينه أية عداوة؟!‏

والرجل الوحيد الذي كسب ودّ الحاج واحترامه وإعجابه كان ديران، اللاعب الذي لا يهزم في القمار والشراب والنسوان.‏

ـ عوّاد..‏

صاح الحاج، ثم بدأ ينزل التل، متجهاً إلى البئر للوضوء، فلقد حان وقت الصلاة، وفهم الخادم ما يراد منه، فبدأ يلملم العدّة.‏

بدا في الضوء الشاحب أطول من المعتاد.‏

سامقاً بجذعه العاري، وشعر صدره الأشقر الذي ينام فيه صليب فضي، يحف به جلال شعائري منحته إياه عزلة المكان الضارية، ووثنية لازالت أرواح قرابينها المهدورة بسخاء تسكن البيوت والحارات، وتطل من الوجاق العثماني، واللقى الأثرية من عقود خرز وأقراط لأميرات من ممالك البليخ والفرات البعيدة، وجرار فخارية لعطور أو زيوت طبية لا يعرف تركيبها غير كهان المعابد والزقورات، ودمى طينية لحيوانات غامضة بعيون شديدة الاتساع وأجنحة وقرون، وثمة نساء عاريات يكاد النبيذ يتفجر من أثدائهن المكشوفة، وأساور زينت بنقش يمثل الأم "ننحور ساج" ونصب لآلهة الينبوع تحمل جرتها، وقطعة نقدية نفر منها وجه الملك "ديكران" الكبير، كل ذلك التقطه بأسعار زهيدة من مهربي الآثار، أو من بعض الأصدقاء الأهالي.‏

وحين استدار واجهه منجل يدوي بقبضة من الخشب وسجاده من قطع القماش المنوع الألوان أشبه بلوحة بدائية، اشتهرت بصناعتها عجائز المدينة إرضاء لدوافع غامضة في إبداع يردن له أن يكسر رتابة الوقت الواحد، واللون الواحد حيث الرمادي هو سيد الدنيا، وحيث الإحساس بالتلاشي سرطان مدّرع يمضي بصمت وهدوء إلى هدفه دون اعتبار لأي شيء، تحرّك إلى ساحة الدار، وهو يتلمس بأصابعه العارية البلاط البارد، وأطياف الضوء تهجم على عينيه دفعة واحدة، وسط هذا الهدوء، فيتحول إلى كائن لا يهدم أفراحه اليباس، كائن بألف عين يشرب لون الورد ورائحة الصباح واللحم القرنفلي الذي يطلّ من حجارة البيوت.‏

هذا متحفك الصغير، ودنياك، ورأسمالك الرمزي، بل هو كونك الأثير يا ديران بعض الأشياء لا تريد أن تفهمها ولا أن تعبر عنها اللغة، حتى لا تفقد سحرها الأسطوري وسطوتها الماتعة، فأنت تريدها "لعبة بوكر" تتقنها الأصابع الواثقة وقناع الوجه الفريد، والأعصاب القادرة على الاسترخاء، هكذا مثل تجريد رائع ومثير وسط عماء شفّاف تلجه حذراً وطائعاً.‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الأربعاء 1 يوليو - 0:03

هذا أنت يا ديران تستسلم مختاراً لأهلاسك وغوايتك، وقد أثقلت روحك الأسماء والأساطير من آرارات وهايك ونايري، أثقلتك بالمشتهى وأنت الضائع المبدّد، وجميل أن تكون مبّدداً تبحث عن شظاياك في الألعاب والفخار وخرز السحرة وعيون الدمى الطينية المحروقة، ومع ذلك تنسى نفسك ساعة تدخل البنك، حيث تتحول إلى رجل بارد كالثلج وسط الغبار والقيظ.‏

حرمل وقطاً وحماد بهّي الضوء.‏

وبلدة على الفرات، ترث وجاهات الممالك المندثرة، ومجد المحاربين، وأنت يا ديران، مثل شجرة الإسفيدار نصفها في الماء وجذورها في تراب الشاطئ تشاقيها العصافير والريح، تترك باب توما ومتع دمشق، مزوّداً بعقل نصفه في الأرقام والسجلات، والنصف الآخر غارق في جنون التاريخ، تمسك بيد ملفات العملاء، وبالأخرى تتلمّس قلب هذه البلدة الفراتية السري بحثاً عن هدف لا تريد أن تنساه حتى لا تنسى مَنْ تكون، بينما الساعات القاتلة تدبّ كيرقات عمياء على السافي ولا مآل آمن.‏

هذا أنت يا ديران.‏

تخفي عارك المصرفي الصغير عن الإدارة، فماذا لو رأى أحد رؤسائك هذا المتحف المتواضع؟ بالتأكيد سيرفع يده الثخينة المثقلة بالخواتم الذهبية والرنين، وبعد أن يملأ فمه بدخان السيكار الفخم، ويحكّ رأسه الكبير، ويرمش بعيني زوج مخدوع.. يقول:‏

ـ مسيو ديران.. ما هذا؟!‏

ويصمت قليلاً ثم يتابع وهو يبحث عن قدّاحته المذهبة:‏

ـ يبدو أن الإدارة أخطأت فأرسلت نقاباً أثرياً لا مدير فرع وقد يستدير برزانة فيل، وبصوت مثقل بالفخامة والعراقة في التعامل وإملاء الأوامر التي لا تقبل الجدل، فيتابع كما علمه المعمرّون الفرنسيون الذين مازال يحمل لهم ذكريات طافحة بالوّد السريّ والإعجاب الساحر:‏

ـ مسيو ديران، يجب أن يكون بيت مدير الفرع صورة عن تفكيره ومكتبه وليس متحفاً، اعتقد أنك تفهمني، فسلامة الدفاتر ودقة الحسابات ليست كل شيء عند الإدارة، وأنا أرى أنّ شاباً في مثل ذكائك يجب ألاَّ يضيع وقته في مثل هذه الترّهات، نعم الترّهات بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات، لذا سأعتبر نفسي وكأنني لم أرَ ما رأيت شرط أن تجد هذه الأشياء طريقها إلى خارج البيت سريعاً، ماذا تظنّ الزبائن يقولون؟!‏

وبلهجة حاسمة وخالية من كل تلوين عاطفي قد يقفل الحوار:‏

ـ سأعتبر الموضوع منتهياً.‏

***‏

باعد ديران بين ساقيه، وزمّ شفتين تحت أنف مستقيم.‏

صورة لحصان برّي شموس لا يعرف الهزيمة أو إسلاس القياد، ورنا من النافذة، فأطل بيت التعاويذي بمناعة حيطانه العالية، وسوره الذي يناطح الأفق، يصل بحبل سرّي غموض صاحبه وقبّة السماء الزرقاء، وإلى جانبه بيت "قره بيت" صانع عربات النقل الخشبية، وقد امتلأ الفناء المفتوح بجذوع التوت المتناثرة وكأنها جثث فرسان سقطوا في معركة وهمية دون أن تسيل من جروحهم الدماء، وإلى جانبها الأطواق الحديدية، وأحواض الماء المصنوعة من "التنك" الذي طالما راقبه وهو يغمس فيه الحديد المحمى، فيتصاعد نشيش الماء بخاراً ينعقد إكليلاً من الضباب المتأوه، ليتّم ذلك القران المقدس بين النار المتقدة والخشب.‏

وتظل عينا "قره بيت" باسمتين وسط العرق، والهواء اللافح، والبخار المتصاعد مع الحريق، ثم تمتّد لوحة من الغبار الهابّ مع كل حركة للهواء، تلوّنها الجراء العاوية، والأطفال القذرون، والفراشات التي تتناسل بحريّة في بستان البلدية القريب، وذكرته الفراشات يوم وصوله الأول، كان مرهقاً، بلله العرق والعطش وطول الطريق، وبعد أن اغتسل وتفقد المكان أحس بهدوء غريب، ففتح النافذة على الشارع العام، كان الوقت غروباً، لكنه رأى وهو غير مصدق آلاف الخفافيش والفراشات والأطفال والعصافير تختلط في عجينة واحدة من الضوضاء والألوان واللغة المبهمة، كسوف غريب يراه ولا يصدّق عينيه، قد يكون حقيقة وقد يكون وهماً تفجر في لا وعيه.‏

واستمع إلى نبض الدم في عروقه، فرد أصابعه وغطى بها جبهته البارزة وهجس بيأس:‏

ـ المكان بلا امرأة لا يطاق.‏

انفتل عائداً إلى كرسيه، اكتشف فضاء الغرفة والطاولة والكراسي وعلبة الدخان، فسكب لنفسه قدحاً من الويسكي، شرب منه جرعة فلذعته الحرارة الحريفة، فأسقط قطعة من مكعبات الثلج فيه وتذكر قول أبيه:‏

ـ الأرمني لا يموت من كثرة العمل، لكنه يموت إذا لم يعمل.‏

وارتمى على الكرسي مهدوداً، مدّد ساقيه ثم تناول لفافة من علبة التبغ غرسها في فمه، فتسللت إليه رائحة التبغ، وحين تصاعد دخانها الأزرق، راقب أصابعه الحافية ترتاح على وثارة البساط الصوفي، فأحس بمتعة ساحرة وكأنه يداعب جسد امرأة عارية خرجت لتوّها من تحت البخار.‏

ـ التبغ فاخر، والشراب فاخر، والمكان بدائي، لو كانت هناك امرأة فاخرة لاختلف الأمر.‏

لمع هذا الشعور الحاني صافياً كالمرآة في عينيه، فذكر أول لقاء له مع أنثى في هذا المنفى ـ وليته كذلك ـ فالحالة تستدعي أن يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، يوماً جاءه المستخدم الصغير الذي أرشده إلى المنزل المخصص لسكناه دون موعد، ابتسم عن صف من الأسنان البيضاء، ودخل، تجوّل في المكان بحريّة مَنْ اعتاد على ذلك وكأنه معنيّ بكل ما في المكان.. ثم قال ضاحكاً:‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الأربعاء 1 يوليو - 0:03

ـ مسيو ديران.. اسمح لي.‏

ـ تفضّل.‏

ـ أنت ابن نعمة، وابن النعمة تعوّد الدّلال.‏

ـ شكراً.‏

وسكت على طريقة مَنْ عاشر السادة والمسؤولين وأهل الحلّ والربط فتعلم منهم كالببغاء ألا يقول كل شيء دفعة واحدة حتى لا يتهم بالثرثرة من جهة، ويضيّع وقع المفاجأة من جهة أخرى.. ثم قال:‏

ـ أقول: اسمح لي وقد يكون كلامي فيه تطفل.‏

ـ خذ راحتك، نحن في البيت لا في البنك.‏

ـ اسمح لي أن أعدّ فنجاناً من القهوة، أولاً ثم نتابع الحديث لكي يكون لكل كلمة طعمها، فالدعاء بدون "ملبّسة" باهت، وقد لا يستجاب.‏

واندفع إلى المطبخ وكأنه يعرف كل زاوية في البيت، وبعد لحظات عاد بعد أن أثار ضجة لا تصدق في المكان، حتى شجيرات الورد والكراسي استمعت بملل، وكأنها تراقب ما يجري بحذر.‏

ـ مسيو ديران اسمح لي من خلال ما رأيت أن أقول لك: المكان يحتاج إلى عناية، الأثاث والمطبخ والبلاط والسرير.‏

قال الكلمة الأخيرة بإيقاع خاص، وهو يبتسم، ويحاول أن يمثل دور الرجل الحريص على راحة معلّمه ورئيسه في العمل. فأجابه:‏

ـ هناك امرأة عجوز من الجوار تتكفلّ بذلك.‏

ـ عفواً مسيو ديران، امرأة من هذا النوع لا تفهم في الذوق والنظافة ما يكفي، فقد يكون تحت أظافرها من الوسخ ما يقتل فيلاً.‏

دهش ديران من أسلوب الحديث، وفاجأه استخدام المفردات بشكل لا يتأتى إلا عن خبرة وإطلاع، فاعتاده حذر المصرفي الذي يريد أن يعتمد مشروعاً قد يكلفه الكثير رغم ضآلة أرباحه. فسأل:‏

ـ ماذا ترى أنت؟!‏

وجد السؤال قبولاً حسناً لدى الرجل، ففرد أساريره، وتخلّى عن حذره الزائد الموروث ـ كما يبدو ـ وقال باسترسال:‏

ـ أرى أنك بحاجة إلى بنت صغيرة، ونظيفة، تدّبر شؤون البيت، وإذا كنت محرجاً تأتي بعد خروجك إلى الدوام، لتأخذ حريتها في العمل، فتكنس وتغسل وتطبخ لك اللقمة، وقبل الساعة الثانية ترحل إلى أهلها، وهكذا كلَّ يوم، المهم أن تفهم المطلوب منها، ويكون لديها مفتاح البيت.‏

ـ وهل تعرف فتاة بهذه المواصفات؟‏

قالها وكأنه يلقي حجراً في بركة راكدة، وقد لذّ له أن يكسر رتابة الوقت وترّمد اللحظات المنطفئة، حيث تدبّ عقارب الساعة مثل رتيلاء مؤذية، فأجاب الرجل:‏

ـ أعرف... بالتأكيد أعرف.‏

ـ ماذا تعرف أيضاً؟‏

ـ أعرف رغبات السادة.‏

ـ وهل تطلب آجراً عالياً؟!.‏

ـ ومتى كان السادة أمثالك يسألون عن الأجر؟!‏

ـ لنفترض الأمر من باب العلم بالشيء.‏

ـ لن يكن الأجر موضع خلاف، فالفتاة بحاجة، وكل ما يأتيها منك بركة.‏

ورشف جرعة كبيرة من القهوة السوداء الكثيفة، وهو يتلمّظ، ويراقب كل حركة تصدر عن مسيو ديران، ويده المشعّرة لا تفارق "عقاله الأسود" على كوفيته البيضاء، وهو ينكسه إلى اليمين، ثمَّ الشمال، وكأنه مولج بتحريك هذا الشيء المدوّر حتّى لا تفارقه شجاعته.‏

ـ سأعلمك كضيف مع أنك لم تأتِ بناء على دعوة.‏

وهبّ غبار لزج مسيو ديران، غامض وغير مفهوم البتّة، فتثاقل اتصاله بما حوله، فتحوّل القادم الرجل إلى حالة عائمة كدبس دبق، وماع الموقف، لم يعد هناك ما يسمى بالناس، بل رنين في حمالة مفاتيح فيها مفتاح للمرحاض، فتذكر قول والده:‏

ـ كن دائماً في موقف المشتري لا البائع.‏

ومع أن الرجل خنس مثل فروة خروف وليد ودائخ، لكنّ الاتصال لم ينقطع، ومثل لقلق فاقد ريشة ذهبية تقوده إلى مصائر الجبال تأوّه، ثمَّ رفع رأسه.‏

ـ ماذا تريد بالضبط؟!‏

قال مسيو ديران متأففاً وكأنّ أسراباً من البعوض الّلوح تهاجمه دفعة واحدة، فردّ الرجل:‏

ـ أريد راحة تاج رأسي ومعلِّمي.‏

فاجأ تركيب الجملة الاستعاري ديران، فتوقف كثيراً عند التاج والرأس والمعلم، ترجمها إلى الفرنسية ثم الأرمنية، فظلت إشارات مبهمة تبرق بها كتلة بشرية دبقة، لم يسبق له التعامل مع مثلها في السوق حيث الحدود قائمة بين ما يجري في غرفة المدير، وما يدور في الغرف الأخرى من شائعات مدروسة ومصدّرة كعلب السردين. فاستحضر كلمات أبيه في مثل هذه الظروف:‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف hamza28 الأربعاء 1 يوليو - 0:04

ـ وجع الرأس لا يأتيك إلا من الصغير، فاتركه يتصرف.‏

من هنا قال له مسيو ديران باستسلام:‏

ـ تصرّف.‏

ومرّت سحابة عابرة من الفرح، ورفّ بريق غامض في العينين، ثم استكان الرجل وهو يردّد:‏

ـ إنها ستحوّل لك البيت جنّة صغيرة.‏

***‏

مع آخر "تكة" في أقفال البنك الحديدية ظهراً.‏

يستعد مسيو ديران لاستقبال شخصية أخرى فيه، بعيدة عن الأرقام ورائحة العملاء الثقيلة، فيدير ظهره للبناء الآجري الذي يبدو وكأنه لحم العجل القرنفلي المقدد، ويسلك الطريق نفسه دون أن يرفع رأسه إلاّ حين يقابل جاره المحامي فظهر علم الدين عائداً، يحمل حقيبته السوداء وقد ارتدى بزّته الأنيقة، وقد بدت بشرته الشقراء التي يشوبها النمش غريبة على المكان، وبعد القيلولة يستعد لجولته المسائية حيث يختلط الجانب الشخصي في البحث عن التسلية مع العمل الذي يحتم التواصل مع الناس.‏

ومع آخر ثمالة رشفها من الكأس، قام مسيو ديران مدير فرع بنك سورية ولبنان في البلد، وبعد أن ألقى بالكأس على الطاولة، لبس قميصه الحرير وجواربه، وحذاءه، ثم خرج صافقاً الباب خلفه، باتجاه بيت سعيد النهري.‏

في الطريق كانت الوجوه تعبره كأقنعة خالية من كل تعبير، مرّ ببيت التعاويذي قلعة الغموض السادرة في نوم قطني، شمّ رائحة الزيزفون وحنّاء الأعراس، وتردّدت أناشيد سريّة ترافقها نقرات دفوف موغلة في الماء وعشب العانات السرّي، تقول لغة عصية الفهم والتفسير، تقلق لياليه أحايين، فلم يبالِ:‏

ـ لك ما تشتهي.‏

والشهوات في المناطق الرمادية مؤرقة وقاتلة كسمّ العنكبوت، ترضع الرمل أحياناً، وربما سفّت دروع التراب الهشّ، لتصنع غراماً خرافياً باللانهائي المشتهى.‏

ثم تناهى إلى سمعه حركة "قره بيت" النشطة، وجمر ناره الذي يزاوج بين الحديد والخشب والماء، بينما يقف زبائنه كالكلاب الضالة مدهوشين ومتلهفين أن يتحول كل ذلك إلى عربات تجرّها بغال هجينة، أو كدش في فيافي الله المحروقة بالشمس والجير.‏

ـ له ما يشتهي.‏

قال في نفسه وكأنه يقول لقره بيت:‏

ـ تظلّ قديس الحقد والصمت.‏

ويمّد الهدوء أجنحة الرماد، ولا يدري من أين يأتي ذلك الوجوم الخانق فيتمنى لو كان لقلقاً يفرد أجنحة ويطير إلى حيث الثلج والنار معاً.‏

وساعة يمرّ من جانب "خان الشيوخ" الذي كان يوماً مركزاً لشركة السوس الإنكليزية ومأوى للمنفيين السياسيين أو الأسرى، يزداد المكان جنائزية وشجواً، وتملأ طيور الخفاش التي انطلقت من أوكارها في السقوف والجدران الخربة الأجواء من حوله، وكأنها تحنّ إلى الماضي الغارق بالسحر والأبهّة والدّم، والنياشين التي تؤكد شجاعة حارّة من أجل الوجود، وكان ثمة حالة عائمة تقود أقدام ديران فيتصاعد صدى خطواته في الرماد العاري يرثي وحدة مشتبهة وسرباً من اللقالق العطشى تبحث عن غيمة تقودها إلى ماء وأرض تشتهي زياراتها.‏
hamza28
hamza28
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 5697
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : المشرف المميز
تاريخ التسجيل : 09/12/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف عاشقة التحدي الأربعاء 1 يوليو - 1:41

مشكووووووووور
عاشقة التحدي
عاشقة التحدي
شهاب خبير
شهاب خبير

عدد الرسائل : 2465
العمر : 32
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : وسام الابداع
تاريخ التسجيل : 06/03/2009

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عرش على الماء‏ .. Empty رد: عرش على الماء‏ ..

مُساهمة من طرف الإمبراطور الأربعاء 1 يوليو - 1:49

شكرا لك
الإمبراطور
الإمبراطور
مشرف قسم الثقافة والعلوم والأدب
مشرف قسم الثقافة والعلوم  والأدب

عدد الرسائل : 10176
العمر : 44
أعلام الدول : عرش على الماء‏ .. Dz10
أوسمة : وسام العطاء
تاريخ التسجيل : 01/11/2008

https://chihab2009.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى