الحرب الإعلامية في غزة والثقافة الكولونيالية

قامت إسرائيل، قبل عدوانها على غزة، بإعداد هجوم إعلامي دقيق باتجاه تلك الدول التي اعتاد الإعلام الغربي أن يسميها بالمجتمع الدولي.
إن هذه التسمية، التي ابتدعت بعد انهيار المعسكر الشيوعي وتعززت خلال حرب الخليج الأولى ضد العراق، خطت خطوات كبرى منذ ذلك الحين. إنها تضم كل الدول التي تساند الولايات المتحدة وإسرائيل في سياستها الهدامة ضد العالم العربي والإسلامي، يستثنى من ذلك روسيا والصين والهند وهي دول تمثل قرابة ربع سكان العالم، دول لا صلة لها بهذا المفهوم، والسبب بسيط كونها لا تخضع ولا تأتمر بأوامر محور واشنطن ـ تل أبيب.
وماذا يقال بعد ذلك عن عشرات الدول الأخرى التي هي في طريق النمو سوى أنها لا تدخل في أي تصنيف؟ أما بالنسبة للدول العربية أو بالضبط تلك التي شاركت إلى جانب الغزاة في حرب الخليج، فإنها فقدت مصداقيتها تجاه الرأي العام ولم تعد قادرة على الخروج من محور الشر هذا. ما يفسر اليوم الصمت المخزي أمام المجازر التي ترتكب أمام أعيننا وهذا ما مكن استراتيجيي إسرائيل في مجال الاتصال أن يركزوا جهودهم على الدول «الرئيسية»، أي تلك التي تشكل جزءا من هذا المجتمع الدولي الذي لا ننتمي إليه.
إن تبني الرأي العام الغربي لهذا المفهوم قد اتخذ له وقتا قبل أن يصبح رد فعل بافلوفي عند المستهلكين الغربيين للإعلام، ثم تعزز بنظرية صاموئيل هنتغتن عن صدام الحضارات واتهام الإسلام واعتباره شرا مستطيرا بعد 11 سبتمبر 2001 .
وهكذا فإن وراء بوش وفريقه من خدام الصهيونية الأكثـر تطرفا، ظل برنارد لويس الإيديولوجي الحقيقي لما بعد 11 سبتمبر من دعاة إعادة ترتيب الشرق الأوسط، وهو بذلك يمثل مفكر نظرية ''المحو'' التي يجب تطبيقها على كل بلد عربي أو مسلم لا يأتمر لأوامر إسرائيل. إن غزو العراق تحت أسباب واهية قد أثبت هذه النظرية وجعل ردود الفعل أكثـر تطرفا، وعزز من تلك الفكرة القائلة بأن كل مقاومة للاحتلال تصبح بشكل أوتوماتيكي إرهابا.
وفي ظل هذه النظرية تواصل إسرائيل احتلال أجزاء أكبر فأكبر من أرض فلسطين وإبعاد الفلسطينيين وتجويعهم، وعندما يُقدم مناضل على الدفاع عن أرضه وأسرته، فإن ذلك لا يتم فقط في ظل اللامبالاة، ولكن أيضا بتأييد من غالبية المشاهدين الغربيين.
إن احتلال شعب ثم وصفه بعد ذلك بالإرهابي، أي وصف أولئك الذين لا يوفرون السلم للغاصبين..( إن ذلك اكتشاف وأي اكتشاف) إن الخلط بين واضعي القنابل في كل مكان في العالم وبين الذين يكافحون من أجل حقوقهم المشروعة، إن ذلك هو الجزء الثاني من الاستراتيجية.
هذه الفكرة رائجة اليوم بشكل واسع في أذهان الغربيين الذين نجح الصهاينة والمحافظون الجدد في زرعها فيهم انطلاقا من نظرة قديمة بدأت تتقهقر: الحنين الكولونيالي.
هذا الاصطفاف والانحياز إلى الطروحات الإسرائيلية الرسمية يرتكز في وسائل الإعلام الثقيلة على تشويه منتظم لصورة العربي والمسلم المستعمر سابقا، والذي لم ينعم بالتهدئة بعد وفقا للحلم الاستعماري، هذا الشعور بالكراهية سمح للمستعمرين الفرنسيين والإنجليز والبلجيكيين والهولنديين والبرتغاليين وغيرهم باقتراف مجازر دون عقاب إلى اللحظة التي هبت فيها رياح التحرير التي جرفت النظام الاستعماري معها.
ولكن، مع كل ذلك لم يسبق أن وجه اتهام لهذا النظام بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، على غرار تلك التي ارتكبت من قبل النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
لقد رفض الغرب دوما الاعتذار عن جرائمه ويواصل العيش مرتكزا على ثقافة استعمارية متأججة أكثـر من أي وقت مضى. فحينما نرى الإسرائيليين يرتكبون المذابح والمجازر في حق العرب، ثم يبررون الجريمة في نفس الوقت، فإن ذلك يدعم فكرة الحنين إلى الحلم الاستعماري المنحط. فالمشاهد الغربي يشعر دون شك عبر الجندي الإسرائيلي قائلين في قرارة أنفسهم ''إنهم يقضون على العرب'' بالوكالة.
لنكن جديين، ألسنا مسؤولين أيضا عن بقاء هذه الثقافة الاستعمارية؟ ماذا عملنا ''على غرار ما قام به اليهود'' لشجب وتعرية الجريمة الاستعمارية لنضمن ألا يعود يوما؟ لقد فضلت أغلبية الأنظمة العربية طي الصفحة وقلبها والقبول بالنظام الاستعماري الجديد، خشية فقدان سلطتهم والمزايا المتصلة بها. كما لم يتم القيام بأية حملة إعلامية وثقافية ذات بعد كبير في هذا الصدد.
ففي الدول التي ظلت تحن إلى العهد الاستعماري أو الإمبراطوري، فإن الثقافة وسلم القيم غالبا ما لا تعمد إلى التنديد أو شجب الاستعمار الذي تم باسم الغرب المسيحي في حق العرب والمسلمين. فهل يعقل إيجاد توازن ما بين جندي إسرائيلي و650 فلسطيني استشهدوا وآلاف من الجرحى لا يظهر مبالغ فيه. لهذا فإن مقال الفيلسوف أندري فلوكسمان، المنشور في ''الباييس'' و''لومند''، يحمل دلالات عدة.
فلوكسمان، المحسوب على اليسار، يشكك في مفهوم الرد المبالغ، رافضا حق الشعب المحتل في المقاومة، ويرى فلوكسمان أن قتل مئات الأطفال والنساء والشيوخ ليس مبالغا فيه. نعم يا سيد فلوكسمان إنكم توافقون من كانوا يؤكدون في القرن 19 أن الجزائريين والهنود، ضحايا الإبادة الاستعمارية، أن ''عربي جيد هو عربي ميت''.
في الحقيقة عدد المثقفين أصبحوا، تحت تسمية فلسطينيين، رجعيين من نوع خاص. الدفاع عن النظام الاستعماري في فلسطين هو رجعية بكل بساطة. العديد من المثقفين اليهود قد نجحوا في مقاومة هذه المحاولة الخاصة بدعم غير القابل للدعم..
اللساني الأمريكي نوام شومسكي، الذي خصص كتابا، مؤخرا، حول ما يسميه ''المجتمع الدولي'' بالدول ''المارقة''، وبعد سرد الحقائق والأحداث الجيوسياسية للعشريتين الماضيتين، خلص إلى أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ''تمثلان تهديدا حقيقيا للسلم والأمن في العالم''.